-->
U3F1ZWV6ZTM3MDQyMzIyMTQ4X0FjdGl2YXRpb240MTk2Mzg0MDI2MTg=
recent
مقالات

رسائل ابن زيدون

رسائل ابن زيدون

رسائل ابن زيدون

المقدمة:

ابن زيدون هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزوميّ الأندلسيّ، وهو من أبرز شعراء الأندلس، تنوّع شعره فكتب في الغزل العفيف وفي الرثاء والفخر، ووصف الطبيعة، حيث كان لنشأته في مدينة قرطبة التي اشتهرت بطبيعتها الرائعة دورٌ في إبداعه في هذا المجال، كما امتاز شعر ابن زيدون بطول القصيدة وكثرة الفنون الشعريّة التي اتبعها، فكان من أبرع شعراء عصره.
وُلد ابن زيدون في خريف سنة 394هـ (1003م) في حيّ من أحياء قرطبة المتراصّة، وتمتدّ جذوره العربية الأصيلة إلى قبيلة بني مخزوم التي كان لها شأن كبير ومكانة عظيمة في الجاهليّة والإسلام، وقد جاء أجداده من المغرب، كما كان بيت بني زيدون من أكبر بيوت قبيلة مخزوم عزاً وجاهاً وثقافةً وأدباً، وكانت عائلتاه من جهة أبيه ومن جهة أمه تعتبران من أبرز عائلات الأندلس، وأيضًا كان أبوه رجلاً ثرياً ومن وجهاء الأندلس ومن أهل العلم والمعرفة باللغة والآداب، كما كان فقيهاً وقاضٍ له شأن كبيٌر وصاحب رأي مسموع، فقد كان قاضي القضاة آنذاك أحمد بن محمد بن ذكوان يشاوره ويراجعه في فتاويه وأحكامه، كما كان موضع ثقة لغيره من القضاة، و يقال إنّ (أبا بكر) وهي كنيته قد توفي بالبيرة بالقرب من غرناطة، حيث كان ذاهباً إلى هناك لتفقد أملاكه ودُفن فيها.
المبحث الأول
1- نبذة عن ابن زيدون
نشأة ابن زيدون وطموحاته نشأ ابن زيدون في أحضان جده ودلال والدته التي كانت تربطه بها علاقة مميزة جداً لا سيما وأنه كان وحيدها، فقد كان لهذه العلاقة الأثر الكبير في تكوين شخصيته النرجسيّة، فنشأ معجباً بنفسه مغتراً بشبابه ووسامته، حيث كان تأثير والدته عليه أقوى من تأثير جده، وقد كانت هذه الحياة المُترفة التي عاشها ابن زيدون سبباً في انصرافه إلى اللهو والمتعة، لا سيما أنّ العصر الذي عاش فيه كان عصر انفتاحٍ ومجون، فأُغرم ابن زيدون بالفنون والموسيقى والغناء، وكان لكلّ هذه الظروف التي أحاطت بنشأته أثر بالغ في حياته، فقد أصبح شابا معتزاً بثرائه وبحسبه ونسبه اعتزازاً كبيراً، وطموحاً ليس لطموحه حد، وقد كان طموحه هذا سبباً في دخوله السجن فيما بعد.

 شيوخ ابن زيدون وأساتذته:

 كان والد ابن زيدون معلمه الأول، فقد كان ضليعاً في علوم اللغة العربية وآدابها، فعلم ولده منذ صغره وأحضر له الأساتذة الذين علموه مختلف العلوم، وفي هذا يقول دكتور شوقي ضيف: (ونظن ظناً أنّ ابن زيدون لزم صديق أبيه عباس بن ذكوان، وأفاد من علمه وفقهه، فقد كان عالم قرطبة الأول في عصره، وامتدت حياته بعد أبيه إلى سنة 413هـ)، كما تتلمذ ابن زيدون على يدي أبي بكر مسلم بن أحمد وهو ابن أفلح النحوي الذي كان عالماً في اللغة والأدب ورواية الشعر، هذا وكان ابن زيدون مقبلاً على العلم راغباً فيه، فأخذ ينهل من العلم من هنا وهناك، فكان يحضر الدروس في الجوامع ويرتاد دور الكتب، ويتردد على جامعة قرطبة الكبيرة ليحضر الدروس التي كانت تُلقى فيها، وكانت قرطبة في ذلك الحين مركزاً للعلم والعلماء، مما ساعد ابن زيدون على الإقبال على العلم والرغبة في تحصيله، هذا ولم يذكر الذين عاصروا ابن زيدون أسماء أساتذة تولوا تعليمه بالترتيب، وفي ذلك يقول وليم الخازن: (ولم يعطنا الذين دنوا حياة الشاعر أسماء أساتذة بالتتابع).

2- أسباب كتابة ابن زيدون الرسالة

الرسالة الهزليّة :

كتب ابن زيدون رسالةً هزليّة وهو في سجنه كما سبق وذكر، نقلتها ولاّدة على لسانها إلى ابن عبدوس الذي كان ينافسه على حبها، وقد جاء في هذه الرسالة هجاءٌ وتشفٍّ وسخط وحقد أظهرت قوة وبأس نفس ابن زيدون الذي تأثر فيها برسالة التربيع والتدوير للجاحظ، وقد شرح هذه الرسالة الأديب ابن نباتة سنة 768هـ في كتاب سماه: (سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون).

الرسائل الجدية:

الرسالة الجدية هي رسالة أرسلها ابن زيدون إلى حاكم قرطبة ابن جهور بعد سقوط الخلافة الأموية في الأندلس سنة 422هـ، طالباً الرحمة منه مستعطفاً إيّاه ليطلق صراحه من السجن الذي وضعه فيه ظلماً نتيجة الدسائس والمؤامرات، وقد أجمع القدماء والمعاصرون على أنّ هذه الرسالة تعتبر من أهم الرسائل الأدبية في تاريخ الأدب العربيّ، لذا لاقت الكثير من التقدير والاهتمام قديماً وحديثاً، ومن مظاهر تقدير الأقدمين لها أنّ بعض الأدباء اقتدى بها وقلدها مثل، محمد بن نصر القيسراني الذي استفاد منها من الناحية الشكلية وليس من ناحية المقاصد، في تأليف ظلامة أبي تمام، كما قلّد هذه الرسالة محي الدين بن ظاهر، وصلاح الدين الصفدي، ومن مظاهر الاهتمام بتلك الرسالة أيضاً قديماً وحديثاً ترجمتها إلى بعض اللغات وكثرة الشارحين لها، هذا ولم تزل تلك الرسالة محطّ اهتمام للدارسين حتى الآن.

3- عرض الرسالتين الجدية و الهزلية

نص الرسالة الهزلية لابن زيدون

أما بعد ، أيها المصاب بعقله ، المورط بجهله ، البين سقطه ، الفاحش غلطه ، العاثر في ذيل اغتراره ، الاعمى عن شمس نهاره ،الساقط سقوط الذباب على الشراب ، المتهافت تهافت الفراش في الشهاب ، فان العجب أكبر ، ومعرفة المرء نفسه اصوب ، وانك راسلتني مستهديا من صلتي ما صفرت منه ايدي أمثالك ، متصديا من خلّتي ما قُرعت دونه أنوف أشكالك ، مرسلا خليلتك مرتادة ، مستعملا عشيقتك قوادة ، كاذبا نفسك انك ستنزل عنها الي ، وتخلف بعدها علي
ولست بأول ذي همة ** دعته لما ليس بالنائل
ولا شك أنها قلتك اذ لم تضن بك، وملتك اذ لم تغر عليك ، فإنها اعذرت في السفارة لك ، وما قصرت في النيابة عنك ، زاعمة ان المروءة لفظ انت معناه ، والانسانية اسم انت جسمه وهيولاه ، قاطعة انك انفردت بالجمال ، واستاثرت بالكمال ، واستعليت في مراتب الجلال ، واستوليت على محاسن الخلال ، حتى خلت ان يوسف ـ عليه السلام ـ حاسنك فغضضت منه ، وان امراة العزيز رأتك فسلت عنه ، وأن قارون أصاب بعض ما كنزت ، والنّطِفَ عثر على فضل ما ركزت ، وكسرى حمل غاشيتك ، وقيصر رعى ماشيتك ، والسكندر قتل دارا في طاعتك ، وأردشير جاهد ملوك الطوائف لخروجهم عن جماعتك ، والضحاك استدعى مسالمتك ، وجذيمة الابرش تمنى منادمتك ، وشيرين قد نافست بوران فيك ، وبلقيس غايرت الزباء عليك ، وان مالك بن نويرة انما ردف لك ، وعروة بن جعفر إنما رحل اليك ، وكليب بن ربيعة انما حمى المرعى بعزتك ، وجساسا انما قتله بانفتك ، ومهلهلا انما طلب ثأره بهمتك ، والسموءل انما وفى عن عهدك ، والاحنف انما احتبى في بردك ، وحاتما انما جاد بوفرك ، ولقى الاضياف ببشرك ، وزيد بن مهلهل انما ركب بفخذيك ، والسليك ابن السلكه انما عدا على رجليك ، وعامر بن مالك انما لاعب الاسنة بيديك ، وقيس بن زهير انما استعان بدهائك ، واياس بن معاوية انمآستضاء بمصباح ذكائك ، وسحبان انما تكلم بلسانك ، وعمرو بن الاهتم انما سحر ببيانك ، وان الصلح بين بكر وتغلب تم برسالتك ، والحمالات بين عبس وذبيان اسندت الى كفالتك ، وان احتال هرم بن سنان لعلقمة وعامر حتى رضيا كان عن اشارتك، وجوابه لعمر ـ وقد سأله عن ايهما كان ينفر ـ وقع عن ارادتك ، وان الحجاج تقلد ولاية العراق بجدك ، وقتيبة فتح ما وراء النهر بسعدك ، والمهلب اوهن شوكة الازارقة بأيدك ، وفرق ذات بينهم بكيدك ، وأن هرمس اعطي بلينوس ما اخذ منك ، وافلاطون اورد على ارسطاطاليس ما نقل عنك ، وبطليموس سوى الاسطرلاب بتدبيرك ، وصور الكرة على تقديرك ، وبقراط علم العلل والمراض بلط حسك ، وجالينوس عرف طبائع الحشائش بدقة حدسك ، وكلاهما قلدك في العلاج ، وسألك عن المزاج ، واستوصفك تركيب الاعضاء ، واستشارك في الداء والدواء ، وانك نهجت لابي معشر طريق القضاء ، وأظهرت جابربن حيان على سر الكيمياء ، وأعطيت النظّام أصلا أدرك به الحقائق ، وجعلت للكندي رسما استخرج به الدقائق ، وإن صناعة الالحان اختراعك ، وتاليف الاوتار والانقار توليدك وابتداعك ، وان عبدالحميد بن يحيى بارى اقلامك ، وسهل بن هارون مدون كلامك ، وعمرو بن بحر مستمليك ، ومالك بن انس مستفتيك ، وانك للذي أقام البراهين ، ووضع القوانين ، وحد الماهية ، وبين الكيفية والكمية ، وناظر في الجوهر والعَرَض ، وميز الصحة من المرض ، وفك المعمّى ، وفصل بين الأسم والمسمى ، وصرف وقسم ، وعدل وقوّم ، وصف الاسماء والافعال ، وبوب الظرف والحال ، وبنى وأعرب ، ونفى وتعجب ، ووصل وقطع ، وثنى وجمع ،وأظهر وأضمر ، واستفهم وأخبر ، وأهمل وقيد ، وأرسل وأسند ، وبحث ونظر ، وتصفح الاديان ، ورجّح بين مذهبي ماني وغيلان ، وأشار بذبح الجعد ، وقتل بشار بن برد ، وأنك لو شأت خرقت العادات ، وخالفت المعهودات ، فأحلت البحار عذبة ، وأعدت السّلام رطبة ، ونقلت غدا فصار امسا ، وزدت في العناصر فكانت خمسا ، وأنك المقول فيه :
 (كلّ الصيد في جوف الفرا) و : ليس على الله بمستنكرِ أن يجمع العالم في واحد
فكدمت في غير مكدم ، واستسمنت ذا ورم ، ونفخت في غير ضرم ، ولم تجد لرمح مهزا ، ولا لشفرة محزا

نص الرسالة الجدية لابن زيدون

يامولايَ وسيّدي ، الّذي ودادي له ، ومَنْ أبقاه الله تعالى ماضِيَ حدّ العزم ، واري زَند الاملِ ، ثابتَ عهدِ النّعمه ،
أظمأتني إلى برودِ إسعافكَ ، ونفضتَ بي كفَّ ِحياطَتك ، وغضضتَ عني طرفَ حمايتك ، بعدَ أن نظر الأعمى إلى تأميلي لكَ ، وسَمِعَ الأصمُّ ثنائي عليك ، وأحسّ الجماد بإستنادي إليكَ ، فلا غرو : قد يغصُّ بالماءِ شاربهُ ، ويقتلُ الدواء المستشفيَ به ، وُيؤتى الحذرُ من مأمنه ، وتكونَ منيّةُ المُتمني في أمنيتهِ والحين قد يسبقُ جَهدَ الحريصِ :
كل المصائبِ قد تمرُّ على الفتى **وتهونُ غير شماتـةِ الحُسّـاد ِ
وإنّي لأتجلدُ ، وأُرِي الشامتينَ أنّي لريبِ الدَّهرِ لا أتضعضعُ ، فأقول :
هل أنا إلا يد أدماها سُوارُها ، وجبينٌ عضَّ به إكليلهُ ، ومشرفيٌٌ ألصقهُ بالأرضِ صاقِلهُ ، وسمهريٌّ عَرَضَه على النُار مثقفُه ، وعبد ٌ ذهب به سيده مذهب الذي يقول :
فَقَسَا ليزدجروا ومن يك حازماً** ًفليقسُ أحيانا ً على من يرحـم ُ
هذا العتبٌ محمود ٌعواقبه ، وهذهِ النّبوةُ غمرةٌ ثم تنجلي ، وهذه النكبةُ سحابةُ صيف ٍ عن قريبٍ تُقشّع ، ولن يريبني من سيّدي أن أبطأ سَحَابُه ، أو تأخر ـ غير ضنين ـ غَناؤه ، فأبطأُ الدلاءِ فيضا ً أملؤُها ، وأثقل السحائبِ مشيا ً أحفلُها ، وأنفع الحيا ماصادف جدبا ، وألذُّ الشَّرابِ ما أصابَ غليلا ، ومع اليوم غد ٌ ، ولكل أجل ٍ كتاب ، له الحمد على اغتِنَامِهِ ولا عتب عليه في إغفاله .
فإن يكنِ الفعلُ الذي ساءَ واحدا ** ًفأفعالهُ اللاتي سَرَرنَ ألـوف

المبحث الثاني

1- الشرح الادبي و البلاغي للرسالة الهزلية
بدأ ابن زيدون رسالته بتقديم عبارات الشتم والتسخير لابن عبدوس. ثم انتقل بعد ذلك إلى جمع مجموعة من الأعلام التاريخية، ويقصد بها إظهار وسعة معارفه وثقافته فى المجال التاريخى، ليبدي مزيته فى الذكاء والمهارة. وكانت هذه الرسالة نموذج التهكم والهجاء وإبراز المعايب وتضخيهما، فتصير نتيجة من نتائج الأعمال الأدبية الكثيرة الخالدة فى الأدب العربى.
تحليل النقد الأدبى
1-  العاطفة
إن ابن زيدون كتب رسالته الهزلية على لسان الولادة، يقصد بها السخرية والتهكم خصمه منافسه فى محبته بالولادة. فمن ثم نستطيع أن نعين أن العواطف الصادرة منه هى العواطف الشخصية والأليمة كلاهما. فأما العاطفة الشخصية فهى انتقامه بمنافسه ابن عبدوس فى نيل حب الولادة. 
2- الخيال
وأما العنصر الخيالى فى هذه الرسالة تبدو من قوة الأديب الشخصية المبتكرة للغرض الذى أراده وهو السخرية والتهكم، ولكن مع ذلك فإن الصورة البيانية للرسالة ليست بجديدة، لأن الأديب كما يعرف التاريخ قد تأثر كثيرا بالجاحظ فى طريقة عرض الرسالة، إذ ليس ابن زيدون هو الأول الذى بنى الرسالة الفنية على صورة كاركاتورية، وإنما ابتكرها من قبل ابن زيدون الجاحظ.  
3- الفكرة
فمن ناحية الحقائق فإن الفكرة التى صدرت من الأديب تعد من الحقائق الكمية الممتازة، لأن الفكرة صدرت من الوقائع الحقيقة الواردة فى حياة الأديب وهى قصته الودية.

الأسلوب

1- صورة كاركاتورية
إن الرسالة الهزلية بنيت على شكل وصورة كاركاتورية، صورة رائعة ضاحكة عن شكل خصومه ابن عبدوس أحواله وصفاته. ولذلك صور صاحب الرسالة نقصان خصومه بدنا وصفة، وفى نفس الوقت أظهر أنه هو أكمل وأقوى منه.
2- الفكاهة
ولقد أتت الرسالة على وجه الفكاهة لأن الكاتب لقد نجح أن يجعل خصومه موضعا خصبا للضحك. وذلك بسبب استخدامه لغة فاكهة، ولكن كانت الفكاهة عذبة راقية رائعة لا يفسد ويزيل معنى الرسالة والغرض منها وهو الهجاء. وهذه الفكاهة نستطيع أن نراها فى كل جملة من الجمل الواردة فى الرسالة.
3- كثرة الاستشهاد بالشعر والحكم والأمثال والإشارات التاريخية
وعندما احتج الأديب حجة لتدعيم وتأكيد ما قاله خلال رسالته، أتى بعدة من الشواهد، كالشعر والحكم والأمثال والإشارات التاريخية. والمثال من الشعر، قول المتنبى: ولست بأول ذى همة * دعته لما ليس بالنائل والمثال من الإشارات التاريخية، قوله:" وأن هرمس أعطى بلينوس ما أخذ منك، وأفلاطون أورد على أرسططاليس ما نقل منك، وبطليموس..."
4- الاقتباس من القرآن الكريم
المثال: " وهلا، علمت أن الشرق والغرب لا يجتمعان، وشعرت أن المؤمن والكافر لا يتقاربان، أو قلت: الخبيث والطيب لا يستويان..."
5- الإتيان بالأسئلة الكثيرة
والمراد بالأسئلة هنا، الإطاحة والهجاء على مروءة وعلوة خصمه وإظهار جهله وتمويهه. وهذه الأسئلة أسئلة بعضها لا يمكن جوابها لمن ليس له علوم كافة. والمثال، عندما أراد ابن زيدون أن يهجو خصمه، ويظهر جهله وتمويهه:" وهل فقدت الأراقم فأنكح فى جنب؟ أو عضلنى همام بن مرة، فأقول: زوج من عود خير من قعود؟
6- الحوار والجدل
وهذا الحوار والجدل طريقة من طرق هجاء الأديب الذى ألقاه لعدوه، وأكثره على طريقة الأسئلة. معنى ذلك أن الأسئلة تجعل أداة من أدوات الحوار والجدل. المثال من الحوار والجدل على طريقة الأسئلة:
فكيف وفى أبناء قومى منكح  *  وفتيان هزان الطول الغرانقة؟
7- السجع
بنى ابن زيدون رسالته على وجه السجع فى آخر فاصلتها، ونجد ذلك فى كل كلمة من الكلمات الأخيرة فى الرسالة.

 الشرح الادبي و البلاغي للرسالة الجدية

إن طبيعة الأندلس ساحرة خلابة, صادفت من ابن زيدون احساساً مشبوباً, وقلباً مفتوحاً, وعاطفة متوهجة , فافتتن بها أيما افتتان, وأذكى ولعه بها إنها ارتبطت بذكريات حبه أوثق ارتباط حيث كانت الكتف الحاني , والمخدع الدافئ , والملتقى الآمن , وفي ربوع الزهراء حيث ازدانت الطبيعة بالمروج الخضر والأزاهير المتفتحة البراعم , والأشجار المتشابكة الاغصان وتجلت السماء عن صفحة زرقاء الأديم يقف ابن زيدون في حال من اللوعة والأسى تستثير الإشفاق إنه طريد هارب من سجنه مفزع من شدة كربه , ناء عن بلده , تهب عليه نسمات الأصيل حزينة على ما به, راثية لحاله , في هذا الجو ينقدح زناد ذكرياته فيشرق خاطره بذكر( ولادة) ويضطرم قلبه شوقاً إليها ,وينعكس خاطره على مرآة الطبيعة من حوله.
وهكذا أطلت الطبيعة بمظاهرها الماثلة الحاضرة, والمستدعاة المستحضرة تهيج في نفس ابن زيدون دفين الذكريات, وتثير فيها لواعج الشوق وكوامن الشجن فيحز ذلك في نفسه ويبعث الضيق والأسى في صدره , إذ ما الفائدة من ذكريات الأمس العِذاب وأمنياته الرطاب إذا كنّ يصطدمن بواقعه الأليم , ثم يعرب ابن زيدون عن مدى إخلاصه في حبه ووفائه لمحبوبته , فيذكر أن ذكرى الحبيب إذا خطرت على قلبه الخفاق ولم يستطع تدفق الشوق أن يحيل قلبه المستهام الى طائر يطير به الى محبوبته, فلا أذاق الله هذا القلب متعة الهدوء ونعمة السكينة وآلاء الاستقرار مادام أخلد الى الأرض ولم يطر الى محبوبته ومناه, ولو شاءت نسمات الصباح التي تسري نحو منازل الحبيب أن تحمل الشاعر على جناحها بدلاً من قلبه الذي هيض جناحه لما وجدت فيه ولادة غير فتى مدنف براه الوجد , وأضناه الهوى حتى ليستطيع النسيم حمله لو شاء وليته فعل , ليحقق المنى في اللقاء بمحبوبته التي ملكت عليه قلبه وعقله لخطر شأنها ونفاسة قيمتها ورفعة منزلتها وعلو مكانتها.‏
ثم ما تلبث الأماني أن تشد الشاعر من جديد في ختام قصيدته الى تذكر عهد مضى استبقا فيه الى حيث الورد والأنس والبهجة أشواطاً كثيرة , ثم في النهاية يحمد ابن زيدون عهداً سلف, ويبدي على حاضره قلقاً وأسفاً أي أسف, لأنه يشهد سلوها ونسيانها , بينما هو باق على تولهه , وعشقه فيهتف قائلاً:
فالآن أحمد ماكنا لعهدكم سلوتم وبقينا نحن عشاقا‏
وهذه القصيدة صرخة لهيفة قد ارتفعت على جناح الطبيعة الى أفق وضيء لم نعهده في المشرق إذ ذاك , فيتضاءل جوارها أكثر ما نعهد من الوصف البصري والتصوير الحسي الذي يقف عند الجزئيات دون أن يفرغها الشاعر في روح كلي عام كما نجد في أكثر نماذج الشعرالعربي حول الطبيعة , أما هذه الرائعة لابن زيدون, فهي تجربة نفسية وحالة وجدانية متكاملة حققت معالم جديدة فقد كان من أجمل ما وفق إليه الشاعر أنه استطاع بتلقائية شاعرة وحضور عاطفي عجيب أن يشخص مظاهر الطبيعة ويخلع عليها الحياة وينفث فيها الإحساس ويلبسها الشعور فجعلها بشراً يتفاعلون مع ابن زيدون فيشاطرونه مشاعره وأحاسيسه ويقاسمونه أفراحه وأتراحه, وهكذا أحال ابن زيدون بحضوره العاطفي المتوهج وأسلوبه المجازي المبدع عناصر الطبيعة أشخاصاً ذوي عواطف إنسانية ومشاعر وجدانية يحنون عليه ويشاركونه تحمل مأساته مادام قد فقد الصاحب والنصير من بني الإنسان .‏
الاسمبريد إلكترونيرسالة